“قصة الأشراف وابن سعود”.. الحلقة (4)

المساء برس – سلسلة حلقات خاصة| لمن أراد أن يفهم ما يحدث الآن في الشرق الأوسط

إن ما نضعه بين يدي القارئ هي قراءة تاريخية بحتة وغير متحيزة، لأحداث الشرق الأوسط خلال القرن الماضي لما لها من أهمية بالغة لا تزال تأثيراتها حاضرة حتى وقتنا الحالي.
وهذا الكتاب عند قراءته يمكن من خلاله فهم طبيعة ما يحدث في الشرق الأوسط في الوقت الحالي بالنظر إلى تشابه الأحداث مطلع القرن الماضي مع الأحداث التي تعيشها المنطقة اليوم، وفهم طبيعة التدخلات الغربية في المنطقة والصراع على النفوذ وعلاقة بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل فيما يحدث اليوم.
قصة الأشراف وابن سعود هو كتاب من ضمن مجموعة (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) للمؤلف والمؤرخ العربي علي الوردي.

توطئة المؤلف:
لقد ترافق قيام دولة آل سعود (المملكة العربية السعودية) وانهيار دولة الأشراف في الحجاز (مملكة الحجاز) تغيرات كبيرة أثرت على العالم الإسلامي عموماً والمنطقة العربية خصوصاً.
وبقيت آثار تلك التغيرات الكبيرة بارزة إلى وقتنا الحاضر بالرغم من تقادم الزمن وكثرة العواصف التي مرّت بها هذه المنطقة.

الفصل الأول

أشراف مكة

إن أشراف الحجاز، لا سيما في عصورهم المتأخرة، كانوا كثيرين جداً، ولعل نسبتهم العديدة إلى مجموع السكان تقرب من نسبة السادة إلى مجموعة السكان في العراق، وهم كانوا من حيث مكانتهم الاجتماعية متفاوتين على درجات شتى فهناك في الدرجة الأولى كان الأشراف الذين ينتمون إلى أسرة الشريف الحاكم، حيث كانت لهم مكانة تقرب من مكانة الأمراء من أقرباء الملك في الدول الملكية، ولكل واحد منهم قصور وحشمه وعبيده، أما الباقون من الأشراف فكانوا يتفاوتون في المكانة حسب كفاءاتهم الشخصية أو عصبية أسرهم. ومنهم من كان بدوياً وصار يقطع الطرق على الحجاج كغيره من البدو، كما أن منهم من احترف الحرف الوضيعة. يحدثنا ابن جبير الذي زار الحجاز في القرن السادس الهجري عن الحالة المزرية التي كان بعض الأشراف يعيشون فيها فيقول مانصه:

“وأكثر سكان البلدة – يقصد بلدة جدة مع مافيها من الصحراء والجبال أشراف وعلويون وحسنيون وحسينون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم. وهم من شطف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقاً، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن، من إكراء جمال إن كان لهم، أو بيع لبن و ماء، أو غير ذلك من ثمر يلتقونه أو حطب يحتطبونه، وربما تناولوا ذلك نساءهم الشريفات بأنفسهن. فسبحانه المقدر لما يشاء. ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتضِ لهم الدنيا، جعلنا الله ممن يدين بحب آل البيت الذين أذهب الرجس عنهم وطهرهم تطهيراً”(1)

تأسيس شرافة مكة:

ظل أشراف الحجاز حتى منتصف القرن الرابع الهجري ليس لهم شيء من الحكم، ولم يكن لديهم ما يميزهم عن بقية السكان سوى مكانتهم العالية الناشئة عن انتسابهم إلى النبي. وفي عام 358هـ – الموافق لعام 969م- استطاع أحد الأشراف الحسينيين، وهو جعفر بن الحسن من سلالة موسى الجون، أن يؤسس له نوعاً من الإمارة في مكة أطلق عليها اسم “شرافة مكة ” وهي الشرافة التي استمرت لهم حتى عام 1925م عندما قضى عيها ابن سعود – كما سنأتي إليه في فصل قادم.

كانت الظروف مساعدة لجعفر بن الحسن في تأسيس الشرافة، فقد كان الحجاز حينذاك تابعاً للدولة الإخشيدية في مصر، وكانت تلك الدولة في أواخر أيامها، ولم تلبث أن سقطت في أيدي الفاطميين. وحين استتب الحكم للمعز الفاطمي في مصر كتب إلى جعفر بن الحسن يعينه والياً على الحجاز باسم الدولة الفاطمية. وعند هذا قطع جعفر الدعاء للخلفاء العباسيين – وهو الدعاء الذي كان جارياً في العهد الإخشيدي – وصار يدعو للفاطميين بدلاً من العباسيين، كما أدخل عبارة “حي على خير العمل” في الأذان، وهي العبارة التي يتميز بها أذان الشيعة عن أذان أهل السنة.

كان الأشراف الحسينيون يسكنون المدينة وحواليها، ولهم نفوذ فيها. وقد انتهزوا الفرصة بدورهم، فأعلنوا استقلالهم في المدينة في عام 360هـ – أي بعد سنتين من تأسيي أبناء عمهم الحسنيين لشرافة مكة – وأخذوا يدعون مثلهم للفاطميين، كما أدخلوا في الأذان عبارة “حي على خير العمل”.

عندما وصل خير ذلك إلى العباسيين في بغداد أرسلوا إلى مكة نقيب الطالبيين الحسين بن موسى الموسوي والد الشريف الرضي، حيث عينوه أميراً للحج العراقي. وقد استطاع هذا النقيب أن يقنع جعفر بن الحسن بقطع الدعاء للفاطميين، وبإعادته للعباسيين. والظاهر أن جعفراً لم يستمر على ذلك طويلاً، بل عاد إلى الدعاء للفاطميين، وربما عاد مرة أخرى للعباسيين..(2)

أبو الفتوح:

مات المؤسس جعفر بن الحسن في عام 370هـ فخلفه على شرافة مكة ابنه عيسى، وحين مات عيسى في عام 384هـ خلفه أخوه الحسن وهو المعروف بلقب “أبي الفتوح” وكان من أعظم الأشراف شخصية وأقواهم بدناً، قيل إنه كان يمسك الدرهم فيفركه بيده ويمحو رسمه(3) وكان بالإضافة إلى ذلك شاعراً فصيحاً(4).

أمضى أبو الفتوح سنوات حكمه الأولى بالحروب حيث قاتل أبناء عمه الحسينيين في المدينة، كما قتل أبناء عمه الحسنيين في اليمن(5) ويبدو أنه كان شديد الطموح يريد الخلافة لنفسه، فهو قد رأى في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء يتنازعون عليها هم: الخليفة العباسي في بغداد والخلفية الفاطمي في مصر، والخليفة الأموي في الأندلس. ولعله وجد نفسه أجدر منهم بها.

كان أبو الفتوح كغيره من الأشراف الحسنيين شيعياً من أتباع المذهب الزيدي والمعروف عن المذهب الزيدي إنه يتميز عن المذاهب الشيعية الأخرى بكونه يترضى على الشيخين ويعتبرهما إمامين عادلين، بينما المذاهب الأخرى تطعن فيهما وتتبرأ منهما. وفي عام 401 هـ أوصل إلى أبي الفتوح من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله كتاب يأمره فيه بالبراءة من الشيخين وبإعلان ذلك في الخطبة في الكعبة. فاستنكر أبو الفتوح هذا الأمر، وأراد أن ينتهزها فرصة للانفصال عن الفاطميين وإعلان الخلافة لنفسه.

أوعز أبو الفتوح بإعلان أمر الحاكم على المنبر في الكعبة، فأدى ذلك إلى ضجة وهياج لدى الحجاج وسكان الحجاز، وتجمع الناس يريدون كسر المنبر على صاحبه. وعند هذا أعلن أبو الفتوح عصيانه على الفاطميين، وأعقب ذلك إعلانه الخلافة لنفسة باسم “الراشد بالله” وشرع يتلقى البيعة من أهل مكة والمدينة، ثم بايعته بعدئذٍ قبائل البدو كبني سليم وبني هلال وبني عوف وبني عامر. واستحوذ أبو الفتوح على ما في الكعبة من أموال وتحف، كما استولى على أموال بعض التجار في جدة وحمل سيفاً ادعى انه سيف ذي الفقار، كما حمل قضيباً ادعى انه قضيب رسول الله(6).

وتوجه أبو الفتوح بعدئذٍ نحو الشام بقوة عظيمة مؤلفة من القبائل البدوية التي تابعته وغيرها، وصار كلما مر بموضع جاء إلية سكانه طائعين مبايعين – كما هي عادة الناس تجاه من تقبل الدنيا عليه.

لم يقف الحاكم بأمر الله تجاه ذلك سكاناً، بل أخذ يبذل الأموال لتفريق الناس عن أبي الفتوح، وشجع أحد الأشراف من أقراء أبي الفتوح على احتلال مكة وإعلان الشرافة لنفسه، كما قطع الميرة عن الحجاز مما أدى إلى تضايق الحجازيين وتذمرهم. وأدرك أبو الفتوح ضرورة المصالحة مع الحاكم. فأرسل إليه يعلن التوبة إليه وأعاد الدعاء له في الكعبة، فعفا عنه الحاكم وأبقاه على شرافة مكة.

ومن الجدير بالذكر أن حادثة غريبة حدثت في عهد أبي الفتوح، وذلك في عام 413هـ، خلاصتها أن رجلاً من الحجاج المصريين اقترب من الحجر الأسود وفي يده دبوس، وضرب الحجر بالدبوس ثلاث ضربات حتى سقطت منه ثلاث قطع صغيرة وقال وهو يرتعد “إلى متى يُعبد هذا الحجر إلى متى يُقبل؟ ولا محمد ولا علي فيمنعني من ذلك فإني أهدم اليوم هذا البيت” وكان الرجل طويلاً جسيماً وله أعوان قد وقفوا في باب المسجد للدفاع عنه. فتحاماه الناس وابتعدوا عنه، ولكن رجلاً من أهل اليمن اندفع نحوه فوجأه بخنجره؟ وعند هذا تكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه إرباً وأحرقوه، ثم تتبعوا أعوانه فقتلوا بعضهم، وانثال أهل مكة على الحجاج المصريين فنهبوهم وانتشر النهب إلى غيرهم. ولما هدأت الحالة جاء سدنة الكعبة من بني شبية فأخذوا القطع التي سقطت من الحجر الأسود وعجنوها بالمسك واللاذن والعلك، وأعادوها إلى مواضعها. ولا تزال الشقوق حولها ظاهرة.(7)

(1)محمد بن جبير (رحلة أبن جبير) بغداد1937-ص42.
(2)أحمد السباعي (تاريخ مكة) –مكة 1372هـ ص29.
(3)المصدرالسابق-ص133
(4)أحمد الداودي (عمدة الطالب) –بيروت -109
(5)فؤاد حمزة (قلب جزيرة العرب)-الرياض 1968-ص314.
(6)عبدالملك العصامي(سمط النجوم –العوالي) القاهرة –ج4-ص196
(7)المصدر السابق جص197-198

قد يعجبك ايضا